الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19]. - فيه: سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: تمت أَوْ مُسْلِمًا-، فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، وعاد صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: تمت يَا سَعْدُ إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ-. قال المهلب: الإسلام على الحقيقة، هو الإيمان الذى هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان، الذى لا ينفع عند الله غيره، ألا ترى قول الله للأعراب الذين قالوا: آمنا بألسنتهم دون تصديق قلوبهم: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا (، فنفى عنهم الإيمان لما عرى من عقد القلب بقوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، قال أبو بكر بن العربى: وهذه الآية حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة فى قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان دون عقد القلب، وقد رَدَّ الله قولهم فى موضع آخر من كتابه، فقال: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، ولم يقل: كتب فى ألسنتهم. ومن أقوى ما يرد عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم} إلى قوله: {وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 84]، فجعلهم كفارًا، وقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا (يدل على أن الإسلام يكون بمعنى الاستسلام فيحقن به الدم، ولا يكون بمعنى الإيمان لقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، فكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانًا، إلا الإسلام الحقيقى، فهو إيمان. قال المهلب: وقول سعد: تمت يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إنى لأراه مؤمنًا- فيه التشفع للصديق والولى عند الأمراء والأئمة فيما ينتفعون به، وفيه مراجعة المسئول وتكرير السؤال فى المعنى الواحد، وفيه رد العالم على المتعلم أن يستثبت ولا يقطع على ما لا يعلم، لأنه لا يعلم سرائر الناس ولا يطلع عليها، وهى من مغيبات الأمور التى لا يجوز القطع فى مثلها، ألا ترى أن الرسول رد على امرأة الأنصارى، وقال: تمت والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يُفعل بى-، فلا نشهد لأحد بالجنة إلا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لا ينطق عن الهوى. قال المؤلف: وقوله: تمت خشية أن يكبه الله فى النار-، يريد من تعاصى على الإسلام ولم يدخل فيه إلا [......] (-) فى العطاء، فإن مُنِعَ أبى عن الإسلام، كالمؤلفة قلوبهم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وأصحابه، وسيأتى بيان ذلك فى كتاب الجهاد. وقد اختلف الناس قديمًا واشتد تنازعهم فى قولهم: أنا مؤمن عند الله، وكان أول ذلك أن صاحبًا لمعاذ بن جبل قدم على ابن مسعود، فقال له أصحابه: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، قالوا: من أهل الجنة؟ قال: لا أدرى لى ذنوب فلو أعلم أنها غفرت، لقلت لكم: إنى مؤمن من أهل الجنة، فتضاحك القوم، فلما خرج ابن مسعود، قالوا له: ألا تعجب؟ هذا يزعم أنه مؤمن ولا يزعم أنه من أهل الجنة، قال ابن مسعود: لو قلت إحداهما أتبعتها بالأخرى، فقال الرجل: رحم الله معاذًا، حذرنى زلة العالم، وهذه زلة منك، وما الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار، والبعث والميزان، ولنا ذنوب لا ندرى ما يصنع الله فيها، فلو نعلم أنها غفرت لنا، لقلنا: إننا من أهل الجنة، فقال ابن مسعود: صدقت يا أخى، فوالله إن كان منى لزلة. وذكر أبو عبيد فى كتاب الإيمان، عن إبراهيم النخعى، وابن سيرين، وطاوس، قالوا: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال النخعى: وقال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله. قال أبو عبيدة: وبهذا كان يأخذ سفيان، قال وكيع: كان سفيان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو. وجماعة يرون الاستثناء فيه، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وابن عبدوس، وأحمد بن صالح الكوفى. قال أبو عبيد: وجماعة من العلماء يتسمون به بلا استثناء فيقولون: نحن مؤمنون، منهم: أبو عبد الرحمن السلمى، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وعون بن عبد الله، ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر، والصلت بن بهرام، ومسعر بن كدام. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت هذا عندهم على الدخول فى الإيمان لا على الاستكمال، ألا ترى أن الفرق بينهم وبين النخعى وطاوس وابن سيرين أن هؤلاء كانوا لا يلفظون به أصلاً. قال وكيع: وكان أبو حنيفة يقول: أنا مؤمن هاهنا وعند الله، قال أبو بكر بن الطيب: ووجه الاستثناء فى ذلك أنه لا يعلم هل يثبت على الإيمان ويتمسك به باقى عمره أو يضل عنه، ولهذا رغب المسلمون كافة فى حسن العاقبة والخاتمة، وأن يثبتهم الله بالقول الثابت، وأما وجه من قال: أنا مؤمن حقًا ومؤمن عند الله، وإنما يريد حال وجود إيمانه، لأنه مؤمن على الحقيقة فى تلك الحال، وإلى هذا ذهب محمد بن سحنون. قال أبو عبيد: لأن حكمه فى الدنيا حكم الإيمان فى الولاية والموارثة وجميع سنن المؤمنين. قال أبو بكر بن الطيب: وكلا القولين له وجه. قال أبو عبيد: وكان الأوزاعى يرى الاستثناء وتركه جميعًا [.....]، من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن، إن شاء الله فحسن، لقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقد علم أنهم داخلون.
وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ جَمَعَ الإيمَانَ: الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ، وَالإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ. - فيه: ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَىُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تمت تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ-. قال أبو الزناد: جمع عمار فى هذه الألفاظ الثلاث الخير كله، لأنك إذا أنصفته من نفسك، فقد بلغت الغاية بينك وبين خالقك، وبينك وبين الناس، ولم تضيع شيئًا. وبذل السلام هو كقوله صلى الله عليه وسلم: تمت وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف-، وهذا حض على مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس. والإنفاق من الإقتار هى الغاية فى الكرم، وقد مدح الله مَنْ هذه صفته بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وهذا عام فى نفقة الرجل على أهله، وفى كل نفقة هى طاعة لله تعالى، ودل ذلك أن نفقة المعسر على أهله أعظم أجرًا من نفقة الموسر، وهذا كله من كمال الإيمان، فقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو فى باب إطعام الطعام من الإيمان.
لِقَوْلِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ - وفيه: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء 48]. وقوله: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين. - فيه: الْمَعْرُورِ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ. - وفيه: الأحْنَفِ، قَالَ: ذَهَبْتُ لأنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، يعنى عليًا، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تمت إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: تمت إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ-. قال المؤلف: قوله: تمت إنك امرؤ فيك جاهلية- يريد إنك فى تعييره بأمه على خلق من أخلاق الجاهلية، لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، فجهلت وعصيت الله فى ذلك، ولم تستحق بهذا أن تكون كأهل الجاهلية فى كفرهم بالله تعالى. وغرض البخارى فى هذا الباب الرد على الرافضية والإباضية وبعض الخوارج فى قولهم: إن المذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن بتكذيبهم فى غير موضع منه، فمنها قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، والمراد بهذه الآية من مات على الذنوب، ولو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الشرك وغيره معنى، إذ التائب من الشرك قبل الموت مغفور له، وقوله: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، فسماهم مؤمنين، وإن وقع التقاتل، واستحق أحد الطائفتين اسم البغى، فبان بهاتين الآيتين أن المؤمن لا يخرجه فسقه ومعاصيه من جملة المؤمنين، ولا يستحق بذلك التخليد فى النار مع الخالدين. وثبت أن حديث أبى بكرة لا يرد به الإلزام والحتم بالنار لكل قاتل ومقتول من المسلمين، لأنه صلى الله عليه وسلم سماهما مسلمين وإن التقيا بسيفيهما وقتل أحدهما صاحبه، ولم يخرجهما بذلك من الإسلام، وإنما يستحقان النار إن أنفذ الله عليهما الوعيد، ثم يخرجهما من النار بما فى قلوبهما من الإيمان وعلى هذا مضى السلف الصالح. حدثنا أبو بكر الرازى، قال: حدثنا الشيخ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بأصبهان، قال: حدثنا أبو بكر الطلحى، قال: حدثنا عثمان بن عبيد الله الطلحى، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى، قال: حدثنا سعيد بن سلام العبدى، قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بن أبى رباح، بمكة، فسألته عن شىء، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا؟ قلت: نعم، قال: فمن أى الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدًا بذنب، قال لى عطاء: عرفت، فالزم. وفى حديث أبى ذر النهى عن سب العبيد وتعييرهم بآبائهم، والحض على الإحسان إليهم، وإلى كل من يوافقهم فى المعنى، ممن جعله الله تحت يد ابن آدم، وأجرى عليه حكمه، فلا يجوز لأحد أن يعير عبده بشىء من المكروه يعرفه فى آبائه وخاصة نفسه، لقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى (فلا فضل لأحد على غيره من جهة الأبوة، وإنما الفضل بالإسلام والتقى، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وروى يونس، عن الحسن، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى ذر: تمت أعيرته بأمه؟ ارفع رأسك، فما كنت بأفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل فى دين-، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الأدب. وقال فيه: تمت كان بينى وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها..- وذكر الحديث. وقد روى سمرة بن جندب: أن بلالاً كان الذى عيره أبو ذر بأمه. روى الوليد بن مسلم، عن أبى بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبى ذر وبين بلال محاورة، فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكى إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه، فلما جاءه أبو ذر، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمت شتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمه-؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمت ما كنت أحسب أنه بقى فى صدرك من كبر الجاهلية شىء-، فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدى من التراب حتى يطأ بلال خدى بقدمه، فوطأ خده بقدمه. وسيأتى ما للعلماء فى إطعام العبيد وكسوتهم فى كتاب العتق، إن شاء الله. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة فى حديث أبى بكرة: انظر حرص المقتول على قتل صاحبه، وأنه لو بقى لقتله وعوقب عليه، عذب الله الذين تقاسموا بالله، على صالح، لنبيتنه وأهله، فأهلكهم كلهم. قال أبو الزناد: ليس هذا بشىء، لأن الذين أرادوا قتل صالح كانوا كفرة فعاقبهم الله بكفرهم، وأن الذى كان حريصًا على قتل صاحبه أوجب له النبى صلى الله عليه وسلم النار بنيته ومباشرته للقتل، ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: تمت مَن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة-، لأن الذى لم يعمل السيئة ليس كمثل الذى شرع فى القتال مع الإصرار، وسأستقصى الكلام فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: تمت إذا التقى المسلمان بسيفيهما-، فى كتاب الفتن، إن شاء الله.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت أُرِيتُ النَّارَ فَرَأَيْتَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ-، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: تمت يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر، َ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ-. قال المهلب: قال: الكفر هاهنا هو كفر الإحسان، وكفر نعمة العشير، وهو الزوج، وتسخط حاله، وقد أمر الله رسوله بشكر النعم، وجاء فى الحديث: تمت لا يشكر الله من لا يشكر الناس-، وشكر نعمة الزوج هو من باب شكر نعمة الله، لأن كل نعمة فضل بها العشير أهله، فهى من نعمة الله أجراها على يديه، ومعنى هذا الباب كالذى قبله: أن المعاصى تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الذى يوجب الخلود فى النار، لأنهم حين سمعوا رسول الله قال: تمت يكفرن- ظنوا أنه كفر بالله، فقالو: يكفرن بالله؟ قال: تمت يكفرن العشير ويكفرن الإحسان-. فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أراد كفرهن حق أزواجهن، وذلك لا محالة ينقص من إيمانهم، ودل ذلك أن إيمانهن يزيد بشكرهن العشير وبأفعل البر كلها، فثبت أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل، إذ بالعمل الصالح يزيد، وبالعمل السيئ ينقص. وفيه: دليل أن المرء يعذب على الجحد للفضل والإحسان وشكر المنعم، وقيل: إن شكر المنعم فريضة.
- فيه: ابن مسعود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. معنى هذا الباب كالذى قبله أن تمام الإيمان بالعمل، وأن المعاصى ينقص بها الإيمان، ولا يخرج صاحبها إلى الكفر، والناس مختلفون فى ذلك على قدر صغر المعاصى وكبرها. وفيه من الفقه: أن المُفَسَّر يقضى على المجمل بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أصحاب النبى تأولوا قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (على جميع أنواع الظلم، فبين الله أن مراده بذلك الظلم الشرك خاصة بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (، فوجب بهذا حكم المفسر على المجمل، وهذا قول الجمهور، وقد احتج بهذا الحديث من قال: إن الكلام حكمه العموم، حتى يأتى دليل الخصوص.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَن نبِىّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: تمت آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: تمت أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ-. تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأعْمَشِ. معنى هذا الباب كالأبواب المتقدمة قبله: أن تمام الإيمان بالأعمال، وأنه يدخل على المؤمن النقص فى إيمانه بالكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور فى الخصام، كما يزيد إيمانه بأفعال البر. قال أبو الزناد: ولم يُرد النبى صلى الله عليه وسلم بالنفاق المذكور فى هذين الحديثين النفاق الذى صاحبه فى الدرك الأسفل من النار، الذى هو أشد الكفر، وإنما أراد أنها خصال تشبه معنى النفاق، لأن النفاق فى اللغة أن يظهر المرء خلاف ما يبطن، وهذا المعنى موجود فى الكذب، وخلف الوعد، والخيانة. فإن قيل: قد قال صلى الله عليه وسلم فى حديث عبد الله بن عمرو: تمت كان منافقًا خالصًا-. قيل: معناه خالصًا فى هذه الخلال المذكورة فى الحديث فقط، لا فى غيرها، لقوله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]. وقد ثبت عن الرسول أنه يخرج مِن النار مَن فى قلبه مثقال حَبَّة من خردل من إيمان. قال المهلب: والمراد بالحديث، والله أعلم، من يكون الكذب غالبًا على كلامه، ومستوليًا على حديثه، والخيانة على أمانته، والخلف على مواعيده، فإذا كان هذا شأنه قويت العلامة والدلالة. وأمّا من كان الكذب على حديثه نادرًا فى خبره تافهًا، والخيانة فى أمانته شاذة يدعى العذر فيها، والخلف فى أوعاده، مثل ذلك معتذر بآفات منعته من الإنجاز فلا يقضى عليه بالنادر اليسير، إذ لا يمكن أن يسلم أحدٌ من كذب. وقد سُئل مالك بن أنس، عمن جُرب عليه كذب، قال: أى نوع من الكذب، لعله إذا حدَّث، عن غضادة عيش سلف زاد فى وصفه وأفرط فى ذكره، أو أخبر عَمَّا رآه فى سفره، أعيا فى خبره وأسرف، فهذا لا يضره، وإنما يضر من حدَّث عن الأشياء بخلاف ما هى عليه عامدًا للكذب. وكذلك الخلف فى الوعد، والخيانة فى الأمانة إذا كانت شاذة يدعى فيها العُذر. وذلك مغتفر له غير محكوم عليه فى انفاق أو سوء معتقد، وقد جُرَّب على من سلف من الأئمة بعض ذلك، فلم يضرهم، لأنه كان نادرًا. هذا وجه الحديث إن شاء الله. ويشهد لذلك ما حدثنا به أحمد بن محمد بن عفيف، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، قال: حدثنا محمد بن عمر بن لبابة، حدثنا عثمان بن أيوب، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى رواد، عن أبيه، قال: بلغنى أن رجلاً من أهل البصرة قدم مكة حاجًا، فجلس فى مجلس عطاء بن أبى رباح، فقال الرجل: سمعت الحسن يقول: من كان فيه ثلاث خصال لم أتحرج أن أقول فيه إنه منافق: من إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقال له عطاء: أنت سمعت هذا من الحسن؟ قال: نعم، قال: إذا رجعت إلى الحسن، فقل له: إن عطاء بن أبى رباح يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ما تقول فى بنى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، خليل الله، إذ حدثوا فكذبوا، ووعدوا فاخلفوا، وأؤتمنوا فخانوا، فكانوا منافقين؟. واعلم أنه لن يعدوا أهل الإسلام أن تكون منهم الخيانة والخلف، ونحن نرجو أن يعيذهم الله من النفاق، وما استقر اسم النفاق قط إلا فى قلب جاحد، وكذلك يقول الله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ (إلى: (يَفْقَهُون} [المنافقون: 1- 3]. ألا ترى أن الإيمان زال عن قلوبهم، ونحن نرجو أن لا يكون عن قلوب المؤمنين زائلاً، وإن كان فيهم ما سميتهم به، فَسُرَّ بذلك الحسن، وقال: جزاك الله خيرًا، ثم أقبل على أصحابه فقال لهم: ما لكم لا تصنعون ما صنع أخوكم هذا، إذ سمعتم منى حديثًا حدثتم به العلماء، فما كان منه صوابًا فحسن، وإن كان غير ذلك ردوا عَلَىَّ صوابه. وقد روى عن الرسول أن الحديث فى المنافقين، حدثنا أحمد بن محمد بن عفيف، حدثنا عبد الله بن عثمان، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا عبيد بن محمد الكشورى، حدثنا أسوار بن محمد الصنعانى، حدثنا المعتمر بن أبى المعتمر الجزرى، عن مقاتل بن حيان، أنه سأل سعيد ابن جبير عن قوله، صلى الله عليه وسلم: تمت ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، ومن كانت فيه خصلة واحدة ففيه ثلث النفاق حتى يدعها-. قال مقاتل: وهذه مسألة قد أفسدت علىّ معيشتى، لأنى أظن أنى لا أسلم من هذه الثلاث، أو من بعضهن، ولن يسلم منهن كثير من الناس، فضحك سعيد بن جبير، ثم قال: أَهَمَّنِى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما فضحكا، وقالا: أهمنا والله يا ابن أخى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتينا النبى صلى الله عليه وسلم فسألناه عنه فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال: تمت ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين. أما قولى: إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (، [المنافقون: 1] لا يستيقنون نبوتك فى قلوبهم، فأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولى: إذا وعد أخلف، فذلك فيما أنزل الله علىَّ: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ (، إلى: (يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75- 77]، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولى: إذا اؤتمن خان، فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ (إلى: (جَهُولاً} [الأحزاب: 72]، فكل مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة فى السر والعلانية، ويصوم ويصلى فى السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك إلا فى العلانية، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ وَصَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ-. قال المؤلف: هذا الحديث حجة أيضًا أن الأعمال إيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الصيام والقيام إيمانًا، ومعنى قوله: تمت إيمانًا وإحتسابًا- يعنى: مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه.
- فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا إِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ-. وهذا الباب كالأبواب المتقدمة حجة فى أن الأعمال إيمان؛ لأنه لما كان الإيمان بالله هو المخرج له فى سبيله، كان الخروج إيمان بالله لا محالة، كما تسمى العرب الشىء باسم الشىء مما يكون من سببه فتقول للنبات: نوء؛ لأنه عن النوء يكون، وتقول للمطر: سماء؛ لأنه من السماء ينزل. وسيأتى معنى هذا الحديث فى كتاب الجهاد. وقوله: تمت انتدب الله- يريد أوجب الله وتفضل لمن أخلص النية لله فى جهاده أن ينجزه ما وعده. ونبه صلى الله عليه وسلم بهذه الثلاثة الألفاظ أن المجاهد لا يخلو من الشهادة إن قتل، أو الغنيمة والأجر إن سلم.
وقوله: (أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ). - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ-. معنى هذا الباب أيضًا أن الدين اسم واقع على الأعمال لقوله صلى الله عليه وسلم: تمت الدين يسر-، ثم بين الطريقة التى يجب امتثالها من الدين بقوله: تمت فسددوا وقاربوا- إلى آخر الحديث. وهذه كلها أعمال سماها صلى الله عليه وسلم دينًا، والدين والإسلام والإيمان شىء واحد. قال أبو الزناد: والمراد بهذا الحديث الحض على الرفق فى العمل، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: تمت عليكم من العمل ما تطيقون-، وقال لعبد الله بن عمر: تمت وإذا فعلت هجمت عينك ونقمت نفسك-. وقوله: تمت أبشروا- يعنى بالأجر والثواب على العمل، و تمت استعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة- كأنه خاطب مسافرًا يقطع طريقه إلى مقصده فنبهه على أوقات نشاطه التى يزكو فيها عمله؛ لأن الغدو والرواح والدلج أفضل أوقات المسافر، وقد حض الرسول المسافر على المشى بالليل، وقال: إن الأرض تطوى بالليل، وقال لعبد الله بن عمر: تمت كن فى الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل-، فشبه الإنسان فى الدنيا بالمسافر، وكذلك هو على الحقيقة؛ لأن الدنيا دار نقلة وطريق إلى الآخرة، فنبه أمته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم، والله الموفق.
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِى صَلاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ المقدس. - فيه: حديث البراء حين نسخت القبلة. قال: هذه الآية أقطع الحجج للجهمية والمرجئة فى قولهم: إن الفرائض والأعمال لا تسمى إيمانًا. وقولهم خلاف نص التنزيل؛ لأن الله سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيمانًا، ولا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى صلاتهم إلى بيت المقدس، ومثل هذه الآية قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال: 2، 3]، حتى الزكاة، وفى تسميته لهم مؤمنين فإن كانوا للصلاة عاملين وللزكاة مؤدين فما وجب به أن تكون الصلاة والزكاة إيمانًا؛ لأن المسمى مؤمنا بعمله لشىء يوجب أن يسمى ذلك الشىء إيمانًا. ومثله أيضًا قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62]، فسماهم مؤمنين بإيمانهم بالله ورسوله، وأن لا يذهبوا إذا كانوا مع نبيهم حتى يستأذنوه، واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله.
- فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا-. قال المؤلف: قوله صلى الله عليه وسلم: تمت فحسن إسلامه- قد فسره حين سئل ما الإحسان؟ فقال: تمت أن تعبد الله كأنك تراه- أراد مبالغة الإخلاص لله بالطاعة والمراقبة له. وفى قوله: تمت إلا أن يتجاوز الله عنها- رد على من أنفذ الوعيد على العصاة المؤمنين؛ لأن قوله: تمت إلا أن يتجاوز الله عنها- يدل أنه قد يؤاخذ بها، وقد يتجاوز عنها إذا شاء، وهذا مذهب أهل السنة. وأما حديث أبى سعيد فإن البخارى أسقط بعضه، ولم يسنده، وهو حديث مشهور من رواية مالك فى غير الموطأ، ونص الحديث: قال رسول الله: تمت إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان زلفها، ومحى عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله-. ذكره الدارقطنى فى غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسعة طرق، وثبت فيها كلها ما أسقطه البخارى أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له فى الإسلام كل حسنة عملها فى الشرك، ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء لا اعتراض لأحد عليه، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: تمت أسلمت على ما سلف من خير-، وهو مذكور فى كتاب الزكاة، وكتاب العتق.
- فيه: عَائِشَةَ أَنَّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: تمت مَنْ هَذِهِ؟- قَالَتْ: فُلانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا، قَالَ: تمت مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ-. قال المؤلف: قول عائشة: تمت وكان أحب الدين إلى الله ما دام- هو معنى الباب؛ لأنها سَمَّت الأعمال دينًا بخلاف قول المرجئة. وقال المهلب وأبو الزناد: إنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، خشية الملال اللاحق بمن انقطع فى العبادة. وقد ذَمَّ الله من التزم فعل البرِّ ثم قطعه بقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]. ألا ترى أن عبد الله بن عمرو لما ضعف عن العمل ندم على مراجعته رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التخفيف عنه، وقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقطع العمل الذى كان التزمه. قال ابن قتيبة: وقوله: تمت فإن الله لا يمل حتى تملوا-، معناه لا يمل إذا مللتم. ومثال ذلك: قولهم فى الكلام: هذا الفرس لا يفتر حتى يفتر الخيل، لا يريد بذلك أنه يفتر إذا فترت الخيل، ولو كان هذا المراد ما كان له فضيلة عليها إذا فتر معها. ومثله: قولهم فى الرجل البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، يعنى لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولا أراد أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له فضل على غيره ولا وجبت له به مدحة. قال الشاعر: صَليتْ مِنَّا هُذَيْلٌ بِحَرْبٍ *** لا نَمَلُّ الشَّرَّ حَتَّى تَمَلُّوا لم يرد أنهم يملون الشر إذا ملوا، ولو أراد ذلك ما كان لهم فيه مدح، لأنهم حينئذ يكونون فيه سواء كلهم، بل أراد أنهم لا يملون الشر، وإن مَلّه خصومهم. وقال ابن فورك: معناه إن من شأنكم الملل، وليس هو صفات الله تعالى، لأن الملل صفة تقتضى تغيرًا وحلول الحوادث فى من حلت فيه، وهذا غير جائز فى صفة الله تعالى. وذكر الخطابى فيه وجهًا آخر، وهو أن يكون معناه أن الله لا يسأم الثواب ما لم تسأموا العمل، أى لا يترك الثواب ما لم تتركوا العمل. وقوله: تمت مَهْ- زجرٌ وكَفْ.
وقوله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ - فيه: أَنَسٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ. - وفيه: ابن عمر، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِى كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَىُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة 3]، وذكر الحديث. قال المؤلف: قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (حجة فى زيادة الإيمان ونقصانه، لأن هذه الآية نزلت يوم عرفة فى حجة الوداع يوم كملت الفرائض والسُّنن واستقرَّ الدِّين، وأراد الله قبض نبيه، فدلت هذه الآية، أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافظ على التزامها فإيمانه أكمل من إيمان من قَصرَّ فى ذلك وضيع. ولذلك قال البخارى: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، وقد تقدم فى أول كتاب الإيمان، أن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأُمة. وقال المهلب: الذَّرة أقل الموزونات، وهى فى هذا الحديث التصديق الذى لا يجوز أن يدخله النقص، وما فى البُرّة والشعيرة من الزيادة على الذرة، فإنما هى زيادة على الأعمال يكمل التصديق بها، وليست زيادة فى التصديق لما قدمنا أنه لا ينقص التصديق. فإن قيل: فإنه لما أضاف هذه الأجزاء التى فى الشعيرة والبُرّة الزائدة على الذرة إلى القلب دَلَّ أنها من زائدة التصديق، لا من الأعمال. فالجواب: أنه لما كان الإيمان التام إنما هو قول وعمل، والعمل لا يكون إلا بنية وإخلاص من القلب، جاز أن يُنسب العمل إلى القلب، إذ تمامه بتصديق القلب، وقد عَبَّر عن هذه الأجزاء من الأعمال مرةً بالخير ومرةً بالإيمان، وكل سائغٌ واسعٌ. وقوله: تمت يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله- يدل أن ما ذكر بعد هذا من الذَّرة والبُرَّة والشعيرة، هى من الأعمال والطاعات، إذ الأمة مجمعة على أن قول لا إله إلا الله هو صريح الإيمان والتصديق الذى شبه بالذرة عمل القلب أيضًا. وقال غير المهلب: ويحتمل أن تكون الذرة والشعيرة والبُّرة التى فى القلب كلها من التصديق، لأن قول: تمت لا إله إلا الله- باللسان لا يتم إلا بتصديق القلب. والناس يتفاضلون فى التصديق على قدر علمهم وجهلهم، فمن قَلَّ علمه كان تصديقه مقدار ذرة، والذى فوقه فى العلم تصديقه بمقدار بُرة وشعيرة. إلا أن التصديق الحاصل فى قلب كل واحد من هؤلاء فى أول مرة لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. فأما زيادة التصديق بزيادة العلم، فقوله تعالى عند نزول السورة: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 24] فهذه زيادة العلم. وأما زيادة التصديق بالمعاينة، فقول إبراهيم إذ طلب المعاينة، قال له ربه: (أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} [البقرة: 260]، فطلب الطمأنينة بالمعاينة، وهى زيادة فى اليقين، وقد قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7]، فجعل له مزية على علم اليقين، وبالله التوفيق.
وقَوْلُهُ تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة} [البينة: 5]. - فيه: طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الرَسُول صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ، وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ-، فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت وَصِيَامُ رَمَضَانَ-، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ-، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ-، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ-. قال المؤلف: هذا الحديث حجة أن الفرائض تُسمى إسلامًا، ودل قوله: تمت أفلح إن صدق- على أنه إن لم يصدق فى التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة. فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرض النهى عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتباع النبى صلى الله عليه وسلم فيما سَنَّه لأمته، فكيف يفلح من لم ينته عما نهاه الله، ولم يتبع ما سَنَّه صلى الله عليه وسلم وقد توعد الله على مخالفة نبيه صلى الله عليه وسلم، بقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. فالجواب: أنه يحتمل أن يكون هذا الحديث فى أول الإسلام قبل ورود فرائض النهى. ويحتمل أن يكون قوله: تمت أفلح إن صدق- راجعًا إلى قوله: أنه لا ينقص منها شيئًا ولم يزد، أفلح إن صدق فى أن لا يزيد عليها شيئًا من الفرائض والسنن، ولا فرض الحج لم يأت فى هذا الحديث من طريق صحيح، ولا يجوز أن يسقط فرض الحج عمن استطاع إليه سبيلاً، كما لا يجوز أن تسقط عنه فرائض النهى كلها، وهى غير مذكورة فى هذا الحديث، ولا يجوز ترك اتباع النبى صلى الله عليه وسلم والاقتداء به فى سنته، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، فبان بهذا أن قوله: تمت أفلح إن صدق- ليس على العموم. وفيه تأويل آخر: يحتمل أن يكون قوله: تمت والله لا أزيد على هذا ولا أنقص- على معنى التأكيد فى المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شىءٍ من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أمره بأمر مهم عنده: والله لا أزيد على ما أمرتنى به ولا أنقص، أى أفعله على حسب ما حددته لى، لا أخل بشىءٍ منه، ولا أزيد فيه من عند نفسى غير ما أمرتنى به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار. ومن كان فى المحافظة على ما أُمِرَ به بهذه المنزلة، فإنه متى ورد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله فإنه يبادر إليه، ولا يتوقف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلق فى هذا الحديث لمن احتج أن تارك السُّنن غير حَرِجٍ ولا آثمٍ، لتوعد الله تعالى على مخالفة أمر نبيه. وبهذا التأويل تتفق معانى الآثار والكتاب، ولا يتضاد شىء من ذلك. وهذا الرجل النجدى، هو ضمام بن ثعلبة، من بنى سعد بن بكر. وليس فى رواية مالك وإسماعيل بن جعفر فى هذا الحديث ذكر الحج، وقد رواه ابن إسحاق عن محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس، ذكر فيه الحج. وحديث من لم يذكره أصح. وقد احتج برواية ابن إسحاق من قال: إن فرض الحج على الفور. وقالوا: إنه وفد على الرسول سنة تسع، هذا قول ابن هشام فى السير عن أبى عبيدة، وهو قول الطبرى. وقالت طائفة: إن فرض الحج على التراخى. وقالوا: إن قدوم ضمامٍ فى هذا الحديث على النبى صلى الله عليه وسلم كان فى سنة خمس، هذا قول الواقدى، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى ذلك، فى كتاب الحج، إن شاء الله. ومن حُجَّة الذين قالوا بالتراخى، قالوا: لو صح أن فرض الحج نزل سنة تسع لم يكن فيه حجة لم قال بالفور، إلا أن يدعى أن نزوله كان فى آخر العام وقت الحج، حيث لا يمكن النبى صلى الله عليه وسلم أداءه تلك السنة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك. فإن قيل: فلعل قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أنزلت بعد حديث ضمام. قيل له: سواء نزلت قبله أو بعده لا يسوغ لأحدٍ مخالفة أمر الرسول، فلا تعلق لأحدٍ فى قوله: تمت أفلح إن صدق. وقد قال مالك فى هذه الآية: نزلت يوم الخندق،) وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]، وقال: إن الخندق كان سنة أربع. قال المؤلف: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] نزلت قبل حديث ضمام على كلا القولين ممن قال: إن فرض الحج نزل سنة تسعٍ أو سنة خمس. وقوله صلى الله عليه وسلم: تمت إلا أن يطوع- ندبٌ إلى التطوع. وقوله: تمت أفلح إن صدق-، أى فاز بالبقاء الدائم فى الخير والنعيم الذى لا يبيد. والفلاح فى اللغة: البقاء، وهو معنى قول المؤذن: حى على الفلاح، أى هلموا إلى العمل المؤدى إلى البقاء.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت مَنِ تَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ مِنَ الأجْرِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ-. وهذا الباب أيضًا حجة لأهل السُّنة أن الأعمال إيمان، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل اتباع الجنازة إيمانًا بقوله: تمت من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا. وقال أبو الزناد: حض صلى الله عليه وسلم على التواصل فى الحياة وبعد الممات، والذى حض عليه فى الحياة قوله صلى الله عليه وسلم: تمت صِلْ من قطعك وأعط من حرمك-، وقال: تمت لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا-. والذى حض عليه من الصلة بعد الممات فهو تشييعه إلى قبره والدعاء له، فهذا حق المؤمن على المؤمن.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِىُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِى عَلَى عَمَلِى إِلا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا. وقال ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَذكَرُ عَنِ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقوله تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. - حَدَّثَنَا زُبَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُاللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تمت سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ. - وَعَنْ عُبَادَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلأن مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: تمت إِنِّى خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ، خَيْرًا لَكُمُ...-، وذكر الحديث. معنى قول إبراهيم: ما عرضت قولى على عملى إلا خشيت أن أكون مكذبًا، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن الله تعالى ذَمَّ من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقَصرَّ فى عمله، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] فخشى أن يكون مكذبًا، إذْ لم تمنيه الغاية من العمل، وأشفق من تقصيره. وهكذا ينبغى أن تغلب الخشية على المؤمن، ألا ترى قول الحسن: ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق. وقول ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وإنما هذا، والله أعلم، لأنها طالت أعمارهم حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه، ولم يقدروا على إنكاره، فخشوا على أنفسهم أن يكونوا فى حيز من داهن ونافق. وقوله: ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل، هذا مذهب أهل السُّنة. ذكر الطبرى بإسناده عن أيوب السختيانى، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان رسول الله يبوح بهذا الكلام، يقول: تمت إيمانى كإيمان جبريل وميكائيل-. قال سعيد بن عبد العزيز: هو إذا أقدم على هذه المقالة أقرب أن يكون إيمانه كإيمان إبليس، لأنه أقرَّ بالربوبية وكفر بالعمل. وقال الفضيل بن عياض: يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان، لا والله، لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدى ما افترض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك ألا يتقبل منه. وذكر إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن عائشة، أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] قال: تمت هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ومفرقون أن لا يتقبل منهم-. قال بعض السلف فى قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] قال: أعمال كانوا يحسبونها حسنات بدت لهم سيئات، وإنما لحقهم ذلك لعدم المراعاة وقلة الإخلاص، أو لتعديهم السُّنَّة وركوبهم بالتأويل وجوه الفتنة. وغرض البخارى فى هذا الباب رد قول المرجئة: أن الله لا يعذب على شىء من المعاصى من قال: لا إله إلا الله، ولا يحبط عمله بشىءٍ من الذنوب، فأدخل فى صدر الباب هذا أقوال أئمة التابعين، وما نقلوه عن الصحابة أنهم مع اجتهادهم وفضلهم يستقلون أعمالهم، ويخافون ألا ينجون من عذاب ربهم. وبمثل هذا المعنى نزع أبو وائل، حين سُئل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبد الله بن مسعود، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: تمت سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر-، إنكارًا لقول المرجئة، فإنهم لا يجعلون سباب المسلم فسوقًا، ولا قتاله كفرًا، ولا يُفسقون مرتكبى الذنوب، وقولهم مخالف لقول النبى، وليس يريد بقوله: تمت وقتاله كفرٌ- الكفر الذى هو الجحد لله ولرسله، وإنما يريد كفر حق المسلم على المسلم، لأن الله قد جعل المؤمنين إخوةً، وأمر بالإصلاح بينهم ونصرتهم، ونهاهم برسوله صلى الله عليه وسلم عن التقاطع، وقال: تمت المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا-، فنهى عن مقاتلة بعضهم بعضًا، وأخبر أن من فعل ذلك، فقد كفر حق أخيه المسلم. وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الفتن، باب قول الرسول: تمت لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض-. وقد يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم: تمت وقتاله كفرٌ-، أن تكون المقاتلة بمعنى المشاركة والتناول له باليد والتطاول عليه، كما قال فى المار بين يدى المصلى: تمت فليدرأه، فإن أَبَى فليقاتله-، ولم يرد صلى الله عليه وسلم قطع الصلاة، واستباحة دَمِّه، وإنما أراد دفعه بالشدة والقوة. على هذا يدل مساق الكلام لذكره معه السباب، والعرب تُسمى المشاركة مقاتلة. والدليل على صحة قولنا: إجماع أهل السُّنَّة أن قتل المسلم للمسلم لا يخرجه من الإيمان إلى الكفر، وإنما فيه القود. فينبغى للمؤمن ترك السباب والمشاركة والملاحاة، ألا ترى عظيم ما حَرَم الله عباده من بركة علم ليلة القدر من أجل تلاحى الرجلين بحضرة النبى، فكان ذلك عقوبة للمتلاحين ولمن يأتى بعدهم إلى يوم القيامة، لأنهم جمعوا مع التلاحى ترك أمر الله، لتوقير الرسول وتعزيزه، لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم: تمت وعسى أن يكون خيرًا- بعض التأنس لهم. وقال أبو الزناد: إنما يحبط عمل المؤمن وهو لا يشعر، إذا عد الذنب يسيرًا فاحتقره وكان عند الله عظيمًا، وليس الحبط هاهنا بمخرج من الإيمان، وإنما هو نقصان منه، ولا قوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (يوجب أن يكفر المؤمن وهو لا يعلم، لأنه كما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختيار الإيمان على الكفر، والقصد إليه، فكذلك لا يكون المؤمن كافرًا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره، رحمة من الله لعباده، والدليل على صحة هذا قوله: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث أبى بكر الصديق، وأبى موسى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: تمت الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا-. وهذا يدل على أنه قد يخرج من الإيمان إلى الكفر من حيث لا يعلم، بخلاف ما قلت. قيل له: ليس كما ذكرت، وليس هذا الحديث بمخالف لما شرحناه، بل هو مبيِّن له وموضح لمعناه، وذلك أنه قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: تمت اتقوا الرياء، فإنه الشرك الأصغر-. والرياء ينقسم قسمين: فإن كان الرياء فى عقد الإيمان فهو كفر ونفاق، وصاحبه فى الدرك الأسفل من النار، فلا يصح أن يخاطب بهذا الحديث. وإن كان الرياء لمن سلم له عقد الإيمان من الشرك، ولحقه شىء من الرياء فى بعض أعماله، فليس ذلك بمخرج من الإيمان إلا أنه مذموم فاعله، لأنه أشرك فى بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربه، فَحُرم ثواب عمله ذلك. يدل على هذا حديث أبى سعيد الخدرى، قال: تمت خرج علينا رسول الله ونحن نتحدث عن الدَّجال، فقال: إن أخوف عندى من ذلك الشرك الخفى، أن يعمل الرجل لمكان الرجل، فإذا دَعَا الله بالأعمال يوم القيامة، قال: هذا لى، فما كان لى قبلته، وما لم يكن لى تركته-، رواه الطبرى. فلا محالة أن هذا الضرب من الرياء، لا يوجب الكفر، وهذا المعنى فى الحديث. قال صلى الله عليه وسلم: تمت الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل-، ثم قال: تمت يا أبا بكر، ألا أدلك على ما يُذهب صغير ذلك وكبيره، قل: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم-. وفى بعض الطرق يقول ذلك ثلاث مرات. فبان بهذا الحديث أن من كان هذا القدر من الرياء فيه خفيًا كخفاء دبيب النمل على الصفا، أن عقد الإيمان ثابت له، ولا يخرج بذلك الخاطر الفاسد من الرياء، الذى زين له الشيطان فيه محمدة المخلوقين إلى الشرك، ولذلك عَلَّم النبى صلى الله عليه وسلم أمته مداواة ذلك الخاطر بالاستعاذة، مما يذهب صغير ذلك وكبيره، وليست هذه حالة المنافقين ولا صفات الكافرين، وليس هذا بمخالف لما بيَّنا، والله أعلم.
ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ- فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ لِوَفْدِ عَبْدِ قَيْسِ مِنَ الإيمَانِ، وَقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُل فَقَالَ: مَا الإيمَانُ؟ قَالَ: تمت الإيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، [وَكُتُبِهِ] وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ-، قَالَ: مَا الإسْلام؟ ُ قَالَ: تمت الإسْلامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ-، قَالَ: مَا الإحْسَانُ؟ قَالَ: تمت أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ-، قَال: َ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: تمت مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ، فِى خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ-، ثُمَّ تَلا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [لقمان: 34]، ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ: تمت رُدُّوهُ-، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: تمت هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ-. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنَ الإيمَانِ. - وفيه: قصة هِرَقْلَ تمت قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، فَكَذَلِكَ الإيمَانُ حَتَّى يَتِمّ، َ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ-. قال المؤلف: فيه من الفقه: سؤال العالم العالم عمَّا لا يجهله السائل ليعلمه السامعون، وكل ما سأل عنه من الإسلام والإحسان، فاسم الإيمان والدين واقع عليه، ألا ترى قوله فى حديث هرقل: هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان، فسماه مرةً بالدين ومرةً بالإيمان، فهى أسماء متعاقبة لمعنىً واحدٍ بخلاف قول المرجئة. قال الطبرى: تمت وأشراط الساعة- علاماتها، واحدها شرط، ولذلك سمى الشُرَط شُرطًا لإعلامهم أنفسهم علامات يعرفون بها. قال أوس بن حُجْر: وأشرَطَ فيها نفسه وهو معصم يعنى أعلم نفسه للهلاك. وكان الأصمعى يقول: إن قول الناس أشرط فلان على فلان كذا فى بيعه، معناه جعلوا بينهم علامات. وقوله: تمت إذا ولدت الأمة رَبَّها- فهو أن تلد سرية الرجل الشريف ذى الحسب، منه ابنًا أو ابنةً، فَيُنْسب إلى الأب، وله به من الشرف ما لأبيه، وأمه أَمَة. وإنما قصد صلى الله عليه وسلم بذلك: الخبر عن أن من أمارة قيام الساعة: ارتفاع الأَسَافل وغير ذوى الأخطار من الرجال والنساء، فأعلم أن من ارتفاع من لا خطر له من النساء ولا قدر، يحوِّل بنات الإماء بولادة أمهاتهن لهن من ساداتهن رباتٌ أمثال آبائهن، ومن ارتفاع وضعاء الرجال ومن لا خطر له منهم يحوِّل الذين كانوا حفاةً عراةً عالةً من الغنم رعاة أهل الشرف فى البنيان من الغنى وكثرة المال من بعد العَيْلة والفاقة. وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: تمت لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع- يعنى العبيد والسَّفَلة من الناس. وقوله: تمت الإبل البُهْمُ- يعنى السُّود، وهن أدون الإبل وشرها، لأن الكرام منها الصفر والبيض. ومن روى تمت البَهْم- بفتح الباء فهو خطأ، لأن البهمة ليست من صغار الإبل، وإنما البهمة من ولد الضأن والمعز بعد ما تولد بعشرين يومًا، وجمعها بهم.
- فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تمت الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمورٌ مُشْتَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِىَ الْقَلْبُ. قال المهلب، رحمه الله: الوسائط التى بين الحلال والحرام يحتذ بها أصلان من كل الطرفين، فأيهما قام الدليل عليه أضيفت الوسيطة إليه، وقد يقوم دليلان من الطرفين فيقع الاشتباه، ويعسر الترجيح، فهذه الذى من اتَّقَاها استبرأ لعرضه ودينه كما قال صلى الله عليه وسلم، وهى حمى الله الذى حماه ليبعد عن محارمه، ولئلا يُتَذرع إليها فَتُواقع. وهذا الحديث أصلٌ فى القول بحماية الذرائع، وفيه دليل أن من لم يتق الشبهات المختلف فيها وانتهك حرمتها فقد أوجد السبيل إلى عرضه ودينه، وأنه يمكن أن يُنال من عرضه بذلك فى حديث رواه، أو شهادة يشهد بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: تمت فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه-. وفيه: أن الراسخين فى العلم يمكن أن يعلموا بعض هذه الشبهات لقوله: تمت لا يعلمها كثير من الناس- فدل أنه يعلمها قليل منهم، كما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وسأتقصى فى الكلام على هذا الحديث فى أول كتاب البيوع، إن شاء الله. وفيه: أن العقل والفهم إنما هو فى القلب وموطنه، وما فى الرأس منه إنما هو عن القلب ومنه سببه.
- وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تمت من الْقَوْمُ، أَوْ مَنِ الْوَفْدُ-؟ قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: تمت مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى-، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّة، َ وَسَأَلُوهُ عَنِ الأشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: تمت أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ-؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: تمت شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ-، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ، وَقَالَ: تمت احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ-. معنى هذا الحديث كالأبواب المتقدمة قبله: أن الإيمان واقع على الأعمال، ألا ترى أنه أوقع اسم الإيمان على الإقرار بشهادة التوحيد، وعلى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأداء الخمس، على خلاف قول المرجئة، وإنما نهاهم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، لأنه سألوه عن الأشربة، وكانت كثيرة عندهم، فأعلمهم بما يحتاجون إلى علمه. وكذلك أعلمهم أن أداء الخمس من الإيمان، لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، وكانوا أهل جهاد ونكاية لهم. فإن قيل: فإنه جاء فى الحديث، أنه أمرهم بأربع، وإنما أمرهم بخمس. فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالأربع التى وعدهم بها، ثم زادهم خامسةً، وهذا غير منكور، لأنه وَفَّى لهم بوعده فى الأربع التى سألوه عنها، ولم يجعل التوحيد، ولا الإيمان بالرسول من الأربع، لعلمهم بذلك، وإنما أمرهم بأربع لم تكن فى علمهم أنها دعائم التوحيد وأصله. وفيه: تحريض العَالِم للناس أن يحفظوا العلم، ويُعلموه. وفيه: أن للرجل أن يعلِّم أهل بيته، لقوله صلى الله عليه وسلم: تمت أخبروا بهن من وراءكم-. وقول ابن عباس لأبى جمرة: أقم عندى حتى أجعل لك سهمًا من مالى، فإنما قال ذلك، لأن أبا جمرة كان يتكلم بالفارسية، فأراد أن يجعله ترجمانًا بينه وبين من لا يعرف بالعربية. وفيه: جواز أخذ الأجرة على التعليم.
فَدَخَلَ فِيهِ الإيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأحْكَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] عَلَى نِيَّتِهِ، وَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. - فيه: عُمَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. - وفيه: ابن مَسْعُود، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ. - وفيه: سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فَمِ امْرَأَتِكَ-. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب أيضًا الرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب؛ ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على قوله: تمت الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى-، وإن كان ذلك كافيًا فى البيان عن أن كل ما لم تصحبه نية من الأعمال فهو ساقط غير معتد به، حتى أكد ذلك ببيان آخر فقال: تمت من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه-. ومثله حديث ابن مسعود: تمت إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها فهو له صدقة-. وحديث سعد: تمت إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أُجرت عليها-، ألا ترى أنه جعل الأجر فى هذين الحديثين المنفق على أهله بشرط احتساب النفقة عليهن، وإرادة وجه الله بذلك. وبهذا المعنى نطق التنزيل، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] الآية. وقال الطبرى: فى قوله صلى الله عليه وسلم: تمت الأعمال بالنيات- فيه من الفقه تصحيح قول من قال: كل عامل عملاً، فإنه بين العامل وبين ربه على ما صرفه إليه بنيته ونواه بقلبه، لا على ما يبدو لعين من يراه، وبيان فساد قول من قال: إذا غسل الغاسل أعضاء الوضوء وهو ينوى تعليم جاهل، أو تبرُّدًا من حَمٍّ أصابه، أو تطهيرها من نجاسة، لا يقصد بغسلها أداء فرض الصلاة عليه، أنه مؤدٍ بذلك فرض الله الذى لزمه. وأن من صام رمضان بنية قضاء نذرٍ عليه، أو نية تطوع، أنه يجزيه عن فرض شهر رمضان. وكذلك من حج عمن لم يحج قبل عن نفسه، فنوى الحج عن غيره أن يجزئه عن فرض الحج عن نفسه، إذ كان صلى الله عليه وسلم جعل عمل كل عامل مصروفًا إلى ما صرفه إليه بنيته، وأراده بقلبه فيما بين وبين ربه. فإن كانت هجرته هجرة رغبة فى الإسلام وبراءة من الكفر، فهجرته هنالك لله ورسوله، وإن كانت هجرته طلب دنيا، فليست بالهجرة التى أمر الله عباده. فكذلك الصائم شهر رمضان بنية التطوع، أو قضاء النذر، وغاسل أعضاء الوضوء، والمحرم بالحج عن غيره، كل واحدٍ منهم غير فاعل ما عليه من فرض الله، لأن عمله لِمَا نواه دون ما لم ينوه. وقال غير الطبرى: وقد زعم بعض الفقهاء أن النية غير مفتقر إليها فى بعض الأعمال، كقول زُفَر: إن صيام شهر رمضان لا يحتاج إلى نية، وغيره من الصيام يفتقر إلى نية إلا أن يكون الذى يدركه رمضان مسافرًا أو مريضًا، فإنه لا يصحُ إلا بالنية. فأمَّا الصحيح المقيم فلا يفتقر إلى نية، وهو قول عطاء ومجاهد، واحتجوا أن النية إنما احتيج إليها، لتمييز الفرض عن النفل، وزمن رمضان لا يصح فيه النفل، فلا معنى لاعتبار النية فيه. وكقول الأوزاعى: إن الطهارة والغسل والتيمم لا يحتاج شىء منها إلى نية، ذكره ابن القصار، وهو كقول الحسن بن حى. وكقول الثورى وأبى حنيفة: إن الطهارة لا تفتقر إلى نية، ونَاقَضَا فى التيمم فجعلاه يفتقر إلى نية، وسائر الفقهاء على خلافهم فتركوا قوله صلى الله عليه وسلم: تمت الأعمال بالنيات- وسائر الأحاديث المشروط فيها النية. وزعم الثورى وأبو حنيفة: أن التيمم مفارق للطهارة، لأن الله تعالى قال فى الماء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، ولم يذكر فيه نية، وقال فى التيمم: (فَتَيَمَّمُواْ (والتيمم: القصد فلا يجوز إلا بنية. قال ابن القصار: فيقال لهم: لو سلمنا لكم أن الله نصّ على النية فى التيمم، وأمسك عنها فى الوضوء، لجاز لنا القياس، فنقيس المسكوت عنه على المنصوص عليه، ولما دخلت النية فى التيمم، وهو أقل من الوضوء، كان الوضوء أولى بدخول النية فيه. واحتج الكوفيون أيضًا أن النجاسات يجوز غسلها بغير نية، فكذلك الوضوء، فيقال لهم: الفرق بين غسل النجاسات وبين الطهارة، أن النجاسة قد انخفض أمرها، لأنه عُفى عن اليسير منها يكون فى الثوب والبدن مثل الدم، وسمح بموضع الاستنجاء، وليس كذلك الطهارة، لأنه لم يسمح بترك شىء من الأعضاء فى الوضوء والغسل والتيمم. وفرق آخر: وهو أن الطهارة تجب عن أى حدث كان فى الأربعة الأعضاء، سواء كان الحدث غائطًا أو بولا أو غيره، وليست كذلك النجاسة، لأنه لو أصاب فخذه نجاسة لم يجب عليه غسل يده ورجله، ولو أصابت رجله لم يجب عليه غسل يده، فسقط اعتراضهم أنه لما جاز غسل النجاسة بغير نية أنه يجب مثله فى الوضوء. وقد سئل علىُّ بن أبى طالب عن رجل اغتسل للجنابة ولم ينو، قال: يعيد الغسل، ولا يعرف له مخالف، فصار كالإجماع. وأما قول من قال: إن صيام رمضان لا يفتقر إلى نية، فليس بشىء، لأن قضاءه لا يصح إلا بنية، فوجب أن يفتقر أداؤه إلى النية كالصلاة. وقال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: تمت الأعمال بالنيات- ليس على العموم، وقد توجد أشياء تصح من غير نية، وإن كانت يسيرة فمنها أن مالكًا والكوفيين والشافعى اتفقوا فى المرأة يغيب عنها زوجها مدة طويلة بموت ولا تعلم بموته فيبلغها ذلك بعد عام، أن عدتها من يوم الوفاة، لا من يوم بلغها موته، وهذه عدة بغير نية. ومنها قول ابن القاسم: أنه إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى كفارة الظهار بغير علمه أن يجزئه من كفارته، والكفارة فرض عليه، وإن كان قد أبى ذلك أبو حنيفة والشافعى وأشهب، فقالوا: لا يعتق عنه بغير علمه، لأنه فرض وجب عليه. ومما يجزئ بغير نية ما قاله مالك: أن الخوارج إذا أخذوا الزكاة من الناس بالقهر والغلبة أجزأت عمن أخذت منه. ومنها: أن أبا بكر الصديق وجماعة الصحابة أخذوا الزكاة من أهل الردة بالغلبة والقهر ولو لم تجز عنهم ما أخذت منهم. واحتج من خالفهم فى ذلك وجعل قوله صلى الله عليه وسلم: تمت الأعمال بالنية- على العموم فقال: العدة إنما جعلت للاستبراء، وبراءة الرحم خوف الداخلة فى النسب، وهذه رحم قد حصل لها ما ابتغى من الاستبراء بمضى المدة، وإن كانت المرأة لم تعلم ذلك. وقد أجمعوا على أنها لو كانت حاملا لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه، فوضعت حملها أن عدتها منقضية. وأما أخذ الخوارج الزكاة من الناس فلا حجة فيه لمن قال: إنه عمل بغير نية، لأن النية لا تنفك عنها من غلبة الخوارج، لأن معنى النية ذكره وقت أخذها منه أنه عن الزكاة، أخذها المتغلب عليه إذا لم يأخذها على غير وجه الزكاة، فلا ينفك علمه من ذلك، وهو كالذاكر للصلاة فى وقت أدائها. وقد قال الله تعالى لنبيه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وقام الخلفاء بعده فى أخذها مقامه، وقام من بعدهم من فاسق وصالح. معناهم معنى الظالم من الأمراء. ولم يختلف العلماء أن أخذ الظالم لها يجزئه، فالخارجى فى معنى الظالم. وأهل السنة مجمعون على أن المتغلب يقوم مقام الإمام العدل فى إقامة الحدود وجهاد العدو، وإقامة الجمعات والأعياد وإنكاح من لا ولى لها، فكذلك الخوارج، لأنهم من أهل القبلة وشهادة التوحيد. وأما قوله: إن الصديق أخذ الزكاة من أهل الردة بالغلبة فأجزأتهم فليس بشىء، لأن الصديق لم يقصد أخذ الزكاة بعينها منهم، وإنما قصد إلى حربهم وغنيمة أموالهم وسبيهم لكفرهم، ولو قصد إلى أخذ الزكاة فقط لرد عليهم ما فضل عنها من أموالهم. ونحن نقول: إنها لا تجب عليهم بعد كفرهم، ولو أسلموا بعد ذلك. وأما قول ابن القاسم فى الذى يعتق عبده عن غيره فى الظهار، فقد قال الأبهرى: القياس أنه لا يجزئه، لأن المعتق عنه بغير أمره لم ينو عتقه، فالعتق فى الكفارات لا يجزئ بغير نية، وليس ذلك بمنزلة العتق عن الميت فى كفارة عليه، لأن الميت معدوم النية وليس بواجب أن يعتق عنه إذا لم يوص بذلك، والحى غير معدوم النية، ولا يجوز أن تنوب نية غيره عنه، وإلى هذه المسألة رد ابن القاسم مسألة الظهار، ولم يصب وجه القياس على قول مالك. وقد قال أشهب وابن المواز: لا تجوز الكفارة بغير نية. وليس قول مالك والكوفيين فيمن وقف بعرفة بغير نية مغمى عليه أنه يجزئه مما يعترض به فى هذا الباب، لأن من وقف بعرفة مغمى عليه فهو كمن أغمى عليه بعد الفجر فى يوم الصيام والإغماء: مرض، والمرض لا يبطل الصوم إلا أن يفطر فيه، وليس فى الإغماء أكثر من عدم العلم بالصوم، وعدم العلم به بعد الدخول فيه لا يبطله دليله النوم والنسيان فهو باق على حكم صيامه، وكذلك من أحرم وهو صحيح فحدث له الإغماء فهو باق على حكم إحرامه. وقال أبو محمد الأصيلى: النية والقصد عند الإحرام تجزئ كالإحرام للصلاة، فإذا أحرم بنية وقصد فإن غيرت النية تعد مع سائر الامتثال أجزأت الصلاة، وكذلك الوقوف بعرفة، ولا يعترض بالصغيرة تجب عليها العدة، وهى غير مخاطبة بالعبادة، لأنها قد تصح منها النية والقصد إلى القربة، وإن لم تكن مكلفة فوليها مكلف فى حملها عليها، ألا ترى أن المرأة التى حجت بالصبى الصغير، قالت: تمت ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولك أجر- يعنى فى إحجاج الصبى. وكذلك من أوجب الزكاة فى مال الصغير، جعل الزكاة طهرة للمال وحقا فيه، وجعل ولى الصغير مخاطبًا فيه بدليل قوله: تمت ولك أجر-. قال الطبرى فى قوله صلى الله عليه وسلم: تمت الأعمال بالنيات-: فى هذا بيان من الرسول عن أعمال العباد التى يستوجبون عليها من ربهم الثواب والعقاب، وما منها لله تعالى وما منها لغير الله، وإنما يقترف ذلك عند ابتدائه، وفى أول دخوله فيه، فإذا كان ابتداؤها لله لم يضره ما عرض بعد ذلك فى نفسه وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء باطلاع العباد عليه بعد مضيه فيه ولا سروره بذلك، وهذا قول عامة السلف. قال الحسن البصرى: ما عمل آدمى قط عملا إلا سار فى القلب منه سورتان، فإذا كانت الأولى منهما لله لم تهده الأخرى، وإنما المكروه أن يبتدأه بالنية المكروه ابتداؤه بها أو بعمله غير خالص لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب من ربه، وبنحو ذلك قال السلف. وروى الأعمش، عن خيثمة، عن الحارث بن قيس، قال: إذا كنت تصلى فأتاك الشيطان، فقال: إنك ترائى، فزدها طولا. وروى عن الحسن، أن رجلا كان حسن الصوت بالقرآن فقال له: يا أبا سعيد، إنى أقوم الليل فيأتينى الشيطان إذا رفعت صوتى فيقول: إنما تريد الناس، فقال الحسن: لك نيتك إذا قمت من فراشك. وروى أبو داود الطيالسى، قال: حدثنى سعيد بن سنان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل يسره، فإذا اطلع عليه أعجبه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تمت لك أجران، أجر السر، وأجر العلانية-. وقد قسم الطبرى هذه المسألة فى موضع آخر على قسمين، فقال: ما كان من الأعمال التى يبتدأ بها لوجه الله، تعالى، لها اتصال كصلاة التطوع التى أقلها ركعة، وكالحج الذى إذا أحرم به فى وقته لم يحل منه إلا وقت طلوع الفجر من يوم النحر برمى الجمرة، والعمرة التى لا يحل منها إلا بالطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وشبه ذلك من الأعمال التى لها اتصال بابتداء وانقضاء، فلا تفسد بالعارض فيها من الوسواس من الرياء، وكان عمله على ما ابتدأ من النية، كما أنه لو حدث نفسه بالخروج منها، ولم يفعل فعلا يخرج به منه، لم يكن خارجًا منه، وما كان من الأعمال لا اتصال لها بأول متطاول كالصدقة على المساكين، وتلاوة القرآن، وذكر الله، والتسبيح، وشبهه مما لا تطاول له باتصال، فإن عليه مع كل فعل يفعله من ذلك إحداث نية مجددة، وإرادة منه بها وجه الله غير النية التى سبقت منه للتى قبلها، لأن كل فعلة من ذلك غير التى قبلها والتى بعدها، ولن تفسد الثانية إذا كانت صحيحة بفساد التى قبلها، ولم تصح فهى فاسدة بصحة ما قبلها، والصلاة تفسد الركعة منها بفساد الركعة الأخرى، وتصح بصحتها، ويصح السجود فيها بصحة الركوع، ويفسد بفساده فى بعض الأحوال، وكذلك سائو الأعمال التى لها ابتداء وانقضاء ولها تطاول باتصال.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة 91]. - فيه: جَرِيرِ، قَالَ: تمت بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. - فيه: أن جَرِيرًا قَامَ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: تمت عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ الرسول فقلت: أُبَايِعُكَ عَلَى الإسْلامِ، فَشَرَطَ عَلَىَّ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّى لَنَاصِحٌ لَكُمْ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ-. معنى هذا الباب: أن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول ألا ترى أن رسول الله بايع جريرًا على النصح، كما بايعه على الصلاة والزكاة، سوى بينهما فى البيعة؟. وقد جاء عن الرسول أنه سمى النصيحة دينًا على لفظ الترجمة. رواه ابن عيينة، عن سهيل بن أبى صالح، عن عطاء بن يزيد الليثى، عن تميم الدارى، قال: قال رسول الله: تمت الدين النصيحة- قالها ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: تمت لله عز وجل ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم-. رواه ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم. والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. وأما إن خشى الأذى فهو فى سعة منها. قال أبو بكر الآجرى: ولا يكون ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه، واجتهد فى طلب العلم والفقه، ليعرف به ما يجب عليه، ويعلم عداوة الشيطان له وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إليه النفس حتى يخالفها بعلم. وروى الثورى عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى ثمامة، وكان يقرأ الكتب، قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: من الناصح لله تعالى؟ قال: الذى يبدأ بحق الله قبل حق الناس، فإذا عرض له أمران، أمر دنيا وآخرة، بدأ بعمل الآخرة، فإذا فرغ من أمر الآخرة تفرغ لأمر الدنيا. وقال الحسن البصرى: ما زال لله ناس ينصحون لله فى عباده، وينصحون لعباد الله فى حق الله عليهم، ويعملون له فى الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله فى الأرض. وقال الآجرى: والنصيحة لرسول الله على وجهين: فنصيحة من صَاحَبَهُ وشاهده، ونصيحة من لم يره. فأما صحابته، فإن الله شرط عليهم أن يعزروه ويوقروه وينصروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كل مسلم، فَوَفُّوا بذلك وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة من لم يره: فأن يحفظوا سُنَّته على أمته وينقلوها ويعلموا الناس شريعته ودينه ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا ذلك فهم ورثة الأنبياء. وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فهى على قدر الجاه والمنزلة عندهم، فإذا أمن من ضرهم فعليه أن ينصحهم، فإذا خشى على نفسه فحسبه أن يغير بقلبه، وإن علم أنه لا يقدر على نصحهم فلا يدخل عليهم، فإنه يغشهم ويزيدهم فتنة ويذهب دينه معهم. وقد قال الفضيل بن عياض: ربما دخل العالم على الملك ومعه شىء من دينه فيخرج وليس معه شىء، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يصدقه فى كذبه، ويمدحه فى وجهه. وقد روى الثورى، عن أبى حصين، عن الشعبى، عن عاصم العدوى، عن كعب بن عجرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تمت إنه سيكون بعدى أمراء فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى، ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى، وأنا منه، وسيرد علىَّ الحوض-. وأما نصيحة العامة بعضهم لبعض، فواجب على البائع أن ينصح للمشترى فيما يبيعه، وعلى الوكيل والشريك والخازن أن ينصح لأخيه، ولا يحب له إلا ما يحب لنفسه. وروى ابن عجلان عن عون بن عبد الله، قال: كان جرير إذا أقام السلعة بَصَّرهُ عيوبها، ثم خيره، فقال: إن شئت فاشتر، وإن شئت فاترك، فقيل له: إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنا بايعنا رسول الله على النصح لكل مسلم. وقال المهلب فى قول جرير: تمت عليكم بالسكينة والوقار- دليل أنه يجب على العَالِم إذا رأى أمرًا يخشى منه الفتنة على الناس، أن يعظهم فى ذلك ويرغبهم فى الألفة وترك الفرقة. وقوله: تمت حتى يأتيكم أمير- يعنى ليقوم بأمركم وينظر فى مصالحكم. وقوله: تمت استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو- جعل الوسيلة له إلى عفو الله بالدعاء بأغلب خلال الخير عليه، وما كان يحبه فى حياته من العفو عن من أذنب إليه، وكذلك يجزى كل أحدٍ يوم القيامة بأحسن خلقه وعمله فى الدنيا.
|